سورة التوبة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الليث: يقال: سلخت الشهر إذا خرجت منه، وكشف أبو الهيثم عن هذا المعنى فقال: يقال: أهللنا هلال شهر كذا، أي دخلنا فيه ولبسناه، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباساً منه، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءاً فجزءاً، حتى نسلخه عن أنفسنا وأنشد:
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله *** كفى قائلاً سلخي الشهور وإهلالي
وأقول تمام البيان فيه أن الزمان محيط بالشيء وظرف له، كما أن المكان محيط به وظرف له ومكان الشيء عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر ومن الجسم المحوي فإذا انسلخ الشيء من جلده فقد انفصل من السطح الباطن من ذلك الجلد وذلك السطح، وهو مكانه في الحقيقة فكذلك إذا تم الشهر فقد انفصل عن إحاطة ذلك الشهر به، ودخل في شهر آخر، والسلخ اسم لانفصال الشيء عن مكانه المعين، فجعل أيضاً اسماً لانفصاله عن زمانه المعين، لما بين المكان والزمان من المناسبة التامة الشديدة.
وأما الأشهر الحرم فقد فسرناها في قوله: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] وهي يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر، والمراد من كونها حرماً، أن الله حرم القتل والقتال فيها. ثم إنه تعالى عند انقضاء هذه الأشهر الحرم أذن في أربعة أشياء: أولها: قوله: {واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [النساء: 89] وذلك أمر بقتلهم على الإطلاق، في أي وقت، وأي مكان.
وثانيها: قوله: {وَخُذُوهُمْ} أي بالأسر، والأخيذ الأسير.
وثالثها: قوله: {واحصروهم} معنى الحصر المنع من الخروج من محيط.
قال ابن عباس: يريد إن تحصنوا فاحصروهم.
وقال الفراء: حصرهم أن يمنعوا من البيت الحرام.
ورابعها: قوله تعالى: {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} والمرصد الموضع الذي يرقب فيه العدو من قولهم: رصدت فلاناً أرصده إذا ترقبته، قال المفسرون: المعنى اقعدوا لهم على كل طريق يأخذون فيه إلى البيت أو إلى الصحراء أو إلى التجارة، قال الأخفش في الكلام محذوف والتقدير: اقعدوا لهم على كل مرصد.
ثم قال تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلووا سبيلهم} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أن تارك الصلاة يقتل، قال لأنه تعالى أباح دماء الكفار مطلقاً بجميع الطرق، ثم حرمها عند مجموع هذه الثلاثة، وهي التوبة عن الكفر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فعندما لم يوجد هذا المجموع، وجب أن يبقى إباحة الدم على الأصل.
فإن قالوا: لم لا يجوز أن يكون المراد الإقرار بهما واعتقاد وجوبهما؟ والدليل عليه أن تارك الزكاة لا يقتل.
أجابوا عنه: بأن ما ذكرتم عدول عن الظاهر، وأما في تارك الزكاة فقد دخله التخصيص.
فإن قالوا: لم كان حمل التخصيص أولى من حمل الكلام على اعتقاد وجوب الصلاة والزكاة؟
قلنا: لأنه ثبت في أصول الفقه أنه مهما وقع التعارض بين المجاز وبين التخصيص، فالتخصيص أولى بالحمل.
المسألة الثانية: نقل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول: في مانعي الزكاة لا أفرق بين ما جمع الله، ولعل مراده كان هذه الآية، لأنه تعالى لم يأمر بتخلية سبيلهم إلا لمن تاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة، فأوجب مقاتلة أهل الردة لما امتنعوا من الزكاة وهذا بين إن جحدوا وجوبها أما إن أقروا بوجوبها وامتنعوا من الدفع إليه خاصة، فمن الجائز أنه كان يذهب إلى وجوب مقاتلتهم من حيث امتنعوا من دفع الزكاة إلى الإمام. وقد كان مذهبه أن ذلك معلوم من دين الرسول عليه السلام كما يعلم سائر الشرائع الظاهرة.
المسألة الثالثة: قد تكلمنا في حقيقة التوبة في سورة البقرة في قوله: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] روى الحسن أن أسيراً نادى بحيث يسمع الرسول أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد ثلاثاً، فقال عليه السلام: «عرف الحق لأهله فأرسلوه».
المسألة الرابعة: قوله: {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} قيل إلى البيت الحرام، وقيل إلى التصرف في مهماتهم {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن تاب وآمن. وفيه لطيفة وهو أنه تعالى ضيق عليهم جميع الخيرات وألقاهم في جميع الآفات، ثم بين أنهم لو تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فقد تخلصوا عن كل تلك الآفات في الدنيا، فنرجو من فضل الله أن يكون الأمر كذلك يوم القيامة أيضاً فالتوبة عبارة عن تطهير القوة النظرية عن الجهل، والصلاة والزكاة عبارة عن تطهير القوة العملية عما لا ينبغي، وذلك يدل على أن كمال السعادة منوط بهذا المعنى.


{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في تقرير وجه النظم نقل عن ابن عباس أنه قال: إن رجلاً من المشركين قال لعلي بن أبي طالب إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل، فقال علي: لا إن الله تعالى قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} أي فأمنه حتى يسمع كلام الله، وتقرير هذا الكلام: أن نقول: إنه تعالى لما أوجب بعد انسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين دل ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم وأن ما ذكره الرسول قبل ذلك من أنواع الدلائل والبينات كفى في إزاحة عذرهم وعلتهم، وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدليل والحجة لا يلتفت إليه، بل يطالب إما بالإسلام وإما بالقتل، فلما كان هذا الكلام واقعاً في القلب لا جرم ذكر الله هذه الآية إزالة لهذه الشبهة، والمقصود منه بيان أن الكافر إذا جاء طالباً للحجة والدليل أو جاء طالباً لاستماع القرآن، فإنه يجب إمهاله ويحرم قتله ويجب إيصاله إلى مأمنه، وهذا يدل على أن المقصود من شرع القتل قبول الدين والإقرار بالتوحيد، ويدل أيضاً على أن النظر في دين الله أعلى المقامات وأعلى الدرجات، فإن الكافر الذي صار دمه مهدراً لما أظهر من نفسه كونه طالباً للنظر والاستدلال زال ذلك الإهدار، ووجب على الرسول أن يبلغه مأمنه.
المسألة الثانية: أحد مرتفع بفعل مضمر يفسره الظاهر، وتقديره: وإن استجارك أحد، ولا يجوز أن يرتفع بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل لا يدخل على غيره.
فإن قيل: لما كان التقدير ما ذكرتم فما الحكمة في ترك هذا الترتيب الحقيقي؟
قلنا: الحكمة فيه ما ذكره سيبويه، وهو أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه، أعني وقد بينا هاهنا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشركين، فقدم ذكره ليدل ذلك على مزيد العناية بصون دمه عن الإهدار، قال الزجاج: المعنى إن طلب منك أحد منهم أن تجيره من القتل إلى أن يسمع كلام الله فأجره.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات، فدل ذلك على أن كلام الله ليس إلا هذه الحروف والأصوات، ثم من المعلوم بالضرورة أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة، لأن تكلم الله بهذه الحروف إما أن يكون معاً أو على الترتيب، فإن تكلم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم، لأن الكلام لا يحصل منتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب، فلو حصلت معاً لا متعاقبة لما حصل الانتظام، فلم يحصل الكلام.
وأما إن حصلت متعاقبة، لزم أن ينقضي المتقدم ويحدث المتأخر، وذلك يوجب الحدوث، فدل هذا عن أن كلام الله محدث.
قالوا: فإن قلتم إن كلام الله شيء مغاير لهذه الحروف والأصوات؛ فهذا باطل لأن الرسول ما كان يشير بقوله كلام الله إلا هذه الحروف والأصوات، وأما الحشوية والحمقى من الناس، فقالوا ثبت بهذه الآية أن كلام الله ليس إلا هذه الحروف والأصوات، وثبت أن كلام الله قديم، فوجب القول بقدم الحروف والأصوات.
واعلم أن الأستاذ أبا بكر بن فورك زعم أنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى وأما سائر الأصحاب فقد أنكروا عليه هذا القول، وذلك لأن ذلك الكلام القديم إما أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات، وإما أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها. والأول: هو قول الرعاع والحشوية وذلك لا يليق بالعقلاء.
وأما الثاني: فباطل لأنا على هذا التقدير لما سمعنا هذه الحروف والأصوات، فقد سمعنا شيئاً آخر يخالف ماهية هذه الحروف والأصوات، لكنا نعلم بالضرورة أن عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم ندرك بحاسة السمع أمراً آخر مغايراً لها فسقط هذا الكلام.
والجواب الصحيح عن كلام المعتزلة أن نقول: هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم، لأن كلام الله ليس إلا الحروف والأصوات التي خلقها أولاً، بل تلك الحروف والأصوات انقضت وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم.
واعلم أن أبا علي الجبائي لقوة هذا الإلزام ارتكب مذهباً عجيباً فقال: كلام الله شيء مغاير للحروف والأصوات وهو باقٍ مع قراءة كل قارئ، وقد أطبق المعتزلة على سقوط هذا المذهب والله أعلم.
المسألة الرابعة: اعلم أن هذه الآية تدل على أن التقليد غير كاف في الدين وأنه لابد من النظر والاستدلال، وذلك لأنه لو كان التقليد كافياً، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر، بل يقال له إما أن تؤمن، وإما أن نقتلك فلما لم يقل له ذلك، بل أمهلناه وأزلنا الخوف عنه ووجب علينا أن نبلغه مأمنه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن التقليد في الدين غير كاف، بل لابد من الحجة والدليل فأمهلناه وأخرناه ليحصل له مهلة النظر والاستدلال.
إذا ثبت هذا فنقول: ليس في الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة كم يكون ولعله لا يعرف مقداره إلا بالعرف، فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالباً للحق باحثاً عن وجه الاستدلال أمهل وترك ومتى ظهر عليه كونه معرضاً عن الحق دافعاً للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه والله أعلم.
المسألة الخامسة: المذكور في هذه الآية كونه طالباً لسماع القرآن فنقول: ويلتحق به كونه طالباً لسماع الدلائل، وكونه طالباً للجواب عن الشبهات، والدليل عليه أنه تعالى علل وجوب تلك الإجارة بكونه غير عالم لأنه قال ذلك بأنهم قوم لا يعلمون وكان المعنى فأجره، لكونه طالباً للعلم مسترشداً للحق وكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته.
المسألة السادسة: في قوله: {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} وجوه: قيل: أراد سماع جميع القرآن، لأن تمام الدليل والبينات فيه، وقيل: أراد سماع سورة براءة، لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين، وقيل: أراد سماع كل الدلائل.
وإنما خص القرآن بالذكر، لأنه الكتاب الجاري لمعظم الدلائل. وقوله: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} معناه أوصله إلى ديار قومه التي يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم ثم بعد ذلك يجوز قتالهم وقتلهم.
المسألة السابعة: قال الفقهاء: والكافر الحربي إذا دخل دار الإسلام كان مغنوماً مع ماله، إلا أن يدخل مستجيراً لغرض شرعي كاستماع كلام الله رجاء الإسلام، أو دخل لتجارة. فإن دخل بأمان صبي أو مجنون فأمانهما شبهة أمان، فيجب تبليغه مأمنه. وهو أن يبلغ محروساً في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له، ومن دخل منهم دار الإسلام رسولاً فالرسالة أمان، ومن دخل ليأخذ مالاً في دار الإسلام ولماله أمان فأمان له والله أعلم.


{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)}
قوله: {كَيْفَ} استفهام بمعنى الإنكار كما تقول: كيف يسبقني مثلك، أي لا ينبغي أن يسبقني وفي الآية محذوف وتقديره: كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، لأجل أنهم ما نكثوا وما نقضوا قيل: إنهم بنو كنانة وبنو ضمرة فتربصوا أمرهم ولا تقتلوهم فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} يعني من اتقى الله يوفي بعهده لمن عاهد، والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8